يقول: "وقد حكى أرباب المقالات.." وهم المؤلفون في الفرق، والمقالات: هي اعتقادات الفرق، وذلك مثل مقالات الإسلاميين للأشعري، أي: أقوالهم ومذاهبهم وآراؤهم، يقول رحمه الله: "وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو - وهو الذي يعدونه المعلم الأول- وكان مشركاً يعبد الأصنام، وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، قد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام -أي: الذين انتسبوا إلى الإسلام- أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء"، حتى الفلاسفة الذين ينتسبون إليه، ولكونهم ينتسبون إلى الإسلام لم تستطع عقولهم أن ترضى أن يقروا أرسطو على كل ما قال؛ إذ أن فيه كلاماً لا يقبله العقل أبداً.
ومن ذلك أنه "أنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئاً من الموجودات، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئاً لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملاً في نفسه.. فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ".. سبحان الله! من كان هذا كلامه فهو أستاذ الضلالة والعمى.
يقول: "وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ في إبطال هذه الحجة وردها"، وأبو البركات عند الفلاسفة هو أبو البركات بن ملكا، فيلسوف من أهل بغداد في القرن السادس، عاش قبل شيخ الإسلام رحمه الله، وقد كان يهودياً فاعتنق الإسلام في آخر عمره، وألف كتاباً مطبوعاً اسمه: المعتبر في الحكمة، وهو على منهج ابن رشد تقريباً؛ فقد نقضَ وردَّ كلام الفلاسفة، وقال: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، ولذلك دخل في الإسلام، لكنه بقي متفلسفاً، ويشبهه في ذلك من المعاصرين روجيه جارودي ومصطفى محمود، وقلّ أن تجد أحداً أذهبت عقله الفلسفة ثم عاد سليماً، ولهذا فإن الخير أن يتجنبها الإنسان، وألا يخوض فيها إلا لمعرفة باطلها، مع تمكن الإيمان من قلبه؛ لأن من دخل فيها فإما أن يؤمن بها ثم يرجع، وإما ألا يرجع سالماً، ولهذا كان القاضي أبو بكر ابن العربي -وهو تلميذ من تلاميذ أبي حامد الغزالي- يقول: (شيخنا أبو حامد دخل في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها)، وهكذا قلَّ من يدخل في الفلسفة في مرحلة الشك ثم يسلم وإن عاد واهتدى.